1 – 1 الأزمة:
واجهت بلاد شنقيط في القرن الثالث عشر الهجري - حسب رأي الشيخ محمد المامي - أزمات فكرية خانقة، كادت تغير المفاهيم الشرعية فتجمع على الأمة "حرجين"[1] حسب تعبيره، ومن هذه الأزمات:
1 – 1 - 1 : أن السلف لم يفتوا في نوازل أهل البادية؛ فقد "شاع في علمائنا من لدن مسكة [بن بارك الله فيه] وابن محم [ابن رازقة] أن جل مسائل أهل البادية الخاصة بهم غير متكلم فيها، وغير مصنف فيها، أي: لم تدون ولم تجمع، فقام تفريقها في الكتب الذي صار سببا لجهلها مقام العدم (..) لأن التصانيف مدنية؛ وإنما تكلم أهلها غالبا على مسائلهم الخاصة أو على المسائل الجامعة بيننا وبينهم وسكتوا عن غالب المسائل الخاصة بالبادية"[2] "وأحكام أهل البادية الخاصة بهم مسكوت عنها في الكتب"[3]، وقد "خص أهل البادية بأحكام تترتب على مصالحهم"[4] لا توجد في الكتب الحضرية كما يقول الشيخ:
وإن لـلبدو أحـكاما تخصهم مـثل الألاء بها خص البساتين
ونجل شعبان واليوسي قد سكتا عـن أول سكتت عنه المدايين
"وهو أحكام البادية الخاصة بها، وهما من أهل بادية. وحملنا ذلك على تأليف كتاب البادية"[5]
1 – 1 – 2 : وقد شعر الفقهاء الشناقطة منذ قديم بهذه الأزمة وحاولوا علاجها؛ فقد كان ابن رازقة العلوي ينوي تأليف كتاب في الموضوع لو لم تخترمه المنية:
وكان يهتم لولا أنه اخترمت لـه المنايا بما تفتى الظواعين[6]
فبقي فقهاء البدو "متحيرين" إذا لم يقفوا على نص في المسألة، كما يقول الشيخ: "ولبثنا على ذلك برهة من الدهر متحيرين فيها حتى فرغنا من كتاب البادية فأظفرنا الله بها في شرح ابن لب المالكي للحلل المرقومة لابن الخطيب المالكي"[7]
وقد تعمق الشعور بهذه الأزمة في عصر المؤلف حتى خاطبه العلامة محنض بابه بن عبيد الديماني قائلا: "أدرك الفقه فإنه خرج من الأيدي" قالها بعد تدبره لنظم خليل"[8]
وإذا لم يتكلم السلف على نوازل أهل البادية فإن الحل الوحيد لهذه الأزمة أن يجتهد فقهاء البادية لاستخراج أحكام شرعية لنوازلهم؛ لكن هذه الأزمة قد أدت إلى أزمة أخرى، وهي:
1 – 1 – 3 : أن بعض فقهاء ذلك العصر "قد منع النظر في النوازل"[9] على معاصريهم، وذهبوا إلى أنه "يمنع الكلام في نوازلنا على أمثل المقلدين"[10] بحجة أن الإفتاء خاص بالمجتهدين وهم مفقودون في ذلك العصر؛ كما قال الشيخ محمد المامي:
بقينا وعصر الإجتهادات قد مضى فما الرأي إن لم يفت فينا مقلد؟![11]
بل ذهب هؤلاء إلى أن المقلدين – بمفهوم القدماء للكلمة - مفقودون أيضا في ذلك العصر؛ لأن المقلد الذي نص عليه المتقدمون فهو مجتهد الترجيح وهو مفقود في ذلك العصر الذي لا يوجد فيه إلا جاهل في رأيهم[12]، لكن هؤلاء كانوا يعيشون تناقضا كبيرا بين هذا الموقف النظري، وموقفهم التطبيقي المناقض له تماما فهم "لا تمر بهم سبعة أيام إلا اجتهدوا في نازلة، ويردون دعوى من التمس لهم السلامة باطلة، ومن حلية القبول عاطلة"[13] وكيف لا يجتهدون وأحكام البادية غير منصوص عليها؟ فلا بد من الاجتهاد "وإن لا عطلت الأحكام إن لم ينظر في النوازل أمثل مقلد مع فقد المجتهدين الثلاثة"[14]. على أن بعضهم كان يجمد على النص ويقف حماره في العقبة إذا لم يجد نصا، فيترك العامة حيارى لا يدرون ما يأتون وما يذرون: "فقد فرض بعض علمائنا هذه وأمثالها في العين خاصة، ووقف حماره في أرض لا عين فيها جمودا منه على النص، والجمود على النص من غير ملاحظة القواعد ضلال وإضلال"[15].
وقد أدى بهم هذا الموقف الغريب إلى أنهم منعوا القضاء على معاصريهم لأن القضاء يحرم على الجاهل وأهل العصر كلهم كذلك!! لكنهم مع ذلك كانوا يمارسون القضاء بحجج غريبة، كما يقول الشيخ محمد المامي: "باحثت بعض فضلاء الفقهاء في عدم توقفه في قضاء مع حرمة التخريج لمثله عنده وعدم معرفته لبعض شروطه لو وقف على تسويغه له؛ فوجدت جل اعتماده في ذلك تخريجا على قضية ابن علوان مفتي تونس، في أمره بالكذب الصراح للزوجة التي أتته مرافعة لزوجها لما ظهر له لدده، فقال: "ادعي عليه أن بداخل دبره برصا" يريد للتخلص من ضرره. قلت – ولا قول لي –: ولهم مدخل أوسع من ذلك يسلمون فيه من التخريج، وهو جواز الكذب والزور للإصلاح بين الناس، فيكون هذا من جزئياته. ولكن هذا باب متسع يدخل منه كل أحد، فلو فتح لاتسع الخرق على الراقع، ولم يشأ أحد أن يقضي إلا قضى – وإن كان بليدا – وقال: "أردت الإصلاح"، وضاعت مزية الفقه النفيس، الذي تذلل به صعاب المعضلات، قال تعالى: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"[16]
1 – 1 – 4 : أن "علماء الوقت بين حيزين: حيز أصولي ينحو نحو الاجتهاد، ولم يدعه ولم يدع له، ويذم التقليد ولم يغن عنه غيره، بل لم يستغن هو عنه، وحيز ينحو نحو الفقه ويقول: "نحن خليليون ولم يبلغوا مقاصده (..) وكلاهما يطعن في الآخر"[17] لكن كلا الحيزين كان يعاني من أزمة؛ فما فائدة الأصول والاجتهاد وذم التقليد، إن لم تقدم حلولا شرعية عملية للنوازل الخاصة بأهل البادية؟ وما فائدة فروع الفقه إن لم تنص على المسائل التي يحتاج إليها أهل البادية؟
1 – 1 – 5 : وقد زاد الطين بلة أيضا أن البلاد "ليس فيها أمير السياسة (..) وهو مانع من المواثبة"[18] وليس فيها "القاضي الذي يجلب الخصم بخاتم ورسول"[19]، "فالتنفيذ معدوم، ولا يتم الحكم دونه (..) كما ضاعت الأحكام الكثيرة المنوطة بأرض الإمام. فإنا لله وإنا إليه راجعون"[20] وكما يقول متوجعا:
يـا من لقطر به الأحكام ضائعة يـكش في كـل ظل منه تـنين
لـبعده مـن مسافات بها عرفت عدوى القضاء فما فيها مساكين[21]
1 – 1 – 6 : الضرورات الشديدة "المتحققة"[22] التي تطبع حياة "هذه الطائفة من الأمة التي ألجأتها الضرورة إلى التبدي"[23]؛ فلا يجدون محيصا بسبب "مسيس الحاجة"[24] عن ارتكاب كثير من الرخص التي تخالف أحيانا المشهور والراجح: "وما أجاءني إلى جذع نخلة هذا العلم الغريب إلا مخاض ضرورات البادية وعوائدهم، وهم يصدق عليه أنهم قطر من المسلمين ولهم ضرورات وعوائد، والضرورات والعوائد من ما تبنى عليه الأحكام"[25]
1 – 1 – 7 : سيطرة العادات التي لم ينص عليها أو التي لا توافق المشهور والراجح: "هذا مع أنا وجدناهم لا يتزحزحون عن ما اعتادوه من مسائلهم؛ فتقربنا إلى الله بإخبارهم أن لهم فيه شبهة، لحديث أبي موسى ومعاذ: "يسرا ولا تعسرا بشرا ولا تنفرا"[26] "وعندي أنهم لو ضيق عليهم لاقتحموا النهي بلا شبهة"[27] ومن أمثلتها تلك العادات التي "تعم الناس كثقب الأذنين للأخراص"[28] مع أن الغزالي قال فيه: "قرب أن يدعى في تحريمه الإجماع" ونقل ابن الحاج في مدخله: "غير أن أحمد قال بجوازه"[29]
1 – 2 : الحلول:
اقترح الشيخ محمد المامي طريقتين لحل هذه الأزمات؛ فتلهف على عدم وجدان رجلين يتخصص كل منهما في مجال للبحث عن أحكام النوازل البدوية، أما الأول فيجمع ما تفرق من هذه الأحكام في ثنايا الكتب الموجودة في بلاد شنقيط، وأما الثاني فيُطَوِّف في أرجاء العالم الإسلامي بحثا عن ما عسى أن يكون قد أُلِّف في الأحكام البدوية: "ولهفي على رجلين من هذا القطر يطاعان؛ أما أحدهما فيهتم بجمع الأشتات من هذا كله سنة إذا كان شهما تكفيه اللحظة وتغنيه اللمحة، وأما الآخر فرجل من أهل الهمم العالية يطاع – ولا رأي لمن لا يطاع – يخرج حاجا ويتعلق بأستار الكعبة كما ينبغي ويسأل الحوائج المهمة كحسنَى الخاتمة وعدم السلب بعد العطاء، ثم يتوسل إلى الله في تيسير إحياء هذه الوظيفة التي يجب القيام بها ليطلعه على الكتب المفردة لها بالتصنيف، فالغالب على الظن أنها لا تخلو منها المدن العظام، ثم يزور الروضة الشريفة كما ينبغي، ويسأل حاجته التي أشخصته من المغرب (..) فيسبر مدائن المسلمين مدينة مدينة، بنية صادقة وعزيمة نافذة، فإنه إن أدرك غايته وإن لا أدركها في الآخرة، وتعين الأول، وهو ممكن"[30]
وهكذا أراد الشيخ أن يقوم بدور الرجلين فجال في البلاد والكتب على حد تعبيره: "... عند من جال جولاني في البلاد والكتب"[31]، فيبدو أنه قد زار شنقيط كما يقول: "باحثت بعض أهل شنجيط في العلم"[32]، ودخل جولمة من بلاد السينغال[33]، ووجد لزاما عليه أن يزج بنفسه في "هذا العلم الغريب"[34]، وكان شاعرا بعظم المسؤولية وصعوبة المهمة كما يقول: "تحركت لي – إن شاء الله – همة صاحب الدُّلَيْو الذي أراد أن ينزح البحر ليخرج الياقوت"[35] لكن فتح الله عليه بحلول لهذه الأزمات: "ونرجو من الله أنا وجدنا فتحا في ذلك مناسبا لجهلنا وتأخر زماننا"[36]؛ فاتبع الأسباب التالية لحلها:
1 – 2 – 1 : البحث عن أحكام أهل البادية المتفرقة في الكتب الحضرية وجمعها في كتاب واحد:
وذلك حتى يستطيع الفقيه أن يقف عليها بسهولة: فـ"جل مسائل أهل البادية الخاصة بهم غير متكلم فيها، وغير مصنف فيها، أي: لم تدون ولم تجمع، فقام تفريقها في الكتب الذي صار سببا لجهلها مقام العدم"[37]؛ ولذلك فإن الفقيه البدوي كان يعاني الأمَرَّين في سبيل العثور على هذه المسائل المتناثرة في هذه الموسوعات الضخمة؛ فأخذ الشيخ على عاتقه هذه المهمة فجمع الأحكام المهمة لأهل البادية من ما وقعت عليه يده من كتب المذهب المالكي خصوصا: "بيد أني لا أحتج إلا بنص في مذهب مالك، فليعانقه من كان أهلا لذلك"[38]، فباب المسجد من كتاب البادية مثلا نجده يلخصه من شروح مختصر خليل وحواشيه وما نسج على منواله (الزرقاني والخرشي وبناني والأمير) وشروح الرسالة (يوسف بن عمر وابن ناجي وعلي الأجهوري والنفراوي) وشراح المرشد المعين لابن عاشر (ميارة)، مستخدما رموزها المصطلح عليها عند الفقهاء (ز – بن – عج ...)، ومن المراجع التي رجع إليها في الأبواب الأخرى: كتب النوازل (نوازل ابن هارون ونوازل ابن أبي زمنين[39]) وصحيح البخاري[40] والتبصرة لابن فرحون[41] وابن هلال[42] وكتاب راشد وذيل الديباج[43] وكتب التصوف[44] وكتاب الإجماع لابن القصار وكتاب الإجماع لابن هبيرة والميزان للشعراني والقوانين الفقهية[45] والمنهاج للنووي[46]. ومن مصادره في هذه المجموعة أيضا: شرح العراقي لألفيته في الحديث، وتحقيق المباني لأبي الحسن على الرسالة[47] وقرة العين في شرح الورقات للحطاب والتنقيح للقرافي[48]، وفي الجمان يذكر بعض مراجعه فيقول: "وأما كتب الأصول الجامعة للمذاهب فلا تحصى في قطرنا – تبارك الله – متونا وشروحا. وأما كتب القواعد في المذاهب فلم أعثر في قطرنا على شيء مدون منها إلا قواعد المالكية، ومن أحسنها شرح المنجور على المنهج. وأما جوامع الفروع فمنها كتاب الميزان، وكتاب الحفيد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد – وهو عندنا بتمامه، وعند آل الحاج بتمامه – والقوانين لابن جزي، ومنها: شرح فرائض ابن رشد، والتفاسير كلها ولاسيما ابن عادل على القرآن، وشروح الرسالة، ومن ذلك جزء من مادة الأصول وهو الأحكام الشرعية الخبرية الممثل بها في علم الأصول"[49]، ومن مصادره في الجمان أيضا: شرح السجلماسي على التحفة[50]، والتبصرة لابن فرحون[51] والغيث في الأصول[52] وصحيح البخاري[53]، والذهب الإبريز[54] ورجع في رسائله إلى كتب السنوسي[55]. واهتم بطرد الضوال والهمل فحشاه ورد عليه في "رد الضوال والهمل" وحشى ترجمته في كتاب البادية أيضا، واهتم كذلك بطرة حبيب الله بن القاضي الايجيجبي فحشاها لإعجابه بها: "فإنها آلة التدريس الآن في القبلة (..) وإنما تعرضت أنا لهذه الطرة من أجل شرفها عندي وعند الناس- والحمد لله – فلا أقبل أحدا من طلبتي يدرس إلا بها"[56].
وربما يرجع إلى بعض الكتب بواسطة ككتاب راشد في الحلال والحرام الذي رجع إليه بواسطة الشيخ سيدي محمد الخليفة بن الشيخ سيدي المختار الكنتي[57] ومن النادر أن يبهم مصدره كقوله: "كما ذكر لي عن بعض الكتب"[58] وقوله: "وقد وقفت على الأقوال الثلاثة قبل في شرح معتمد"[59]، "ولبعض شراح المختصر .."[60].
فانتخب من هذه الكتب ما يهم البدو من الأحكام كما يقول في باب الوقف: "وأما الوقف فمن أهمه.."[61]، وذلك مثل صفة المسجد البدوي وأن الحضري أفضل منه وجماعة لا مسجد لهم كأهل العمود والتضييف في مسجد البادية، وجمع في هذا الباب أحكام المسجد من أبواب الفقه المختلفة، فإذا لم يجد في المصدر شيئا من ما يهم أهل البادية فإنه يقول: "لم يأت هنا بشيء من ما نريده"[62] وقد يأتي بفروع لا يظهر بادي الرأي أنها تعني البدو كمسألة الصلاة في الكنيسة، لكنه ذكرها ليقيس عليها حكم الصلاة في بيت من لا يهتم بالطهارة[63].
وإذا كان يقتصر على ما يهم البدو فإنه في كتاب البادية لم يتتبع كل الأبواب الفقهية وإنما اقتصر على المواضيع التالية: المسجد، والوقف، والقسمة، والمداراة، والمكيال، والعقوبة بالمال، وستر العورة، والاستيذان، وزكاة مال الزناقة، ورد آلاي، وحكم المال المربى تحت يد المدافع عنه، وصرف الزكاة إلى غير من تعلق حقه بها، وحكم طبغة، وأصول الحلال والشبهة (متفرقات) وباب الحسير والمنهوب المأيوس منه، وبيع ألسنة الفصلان، وبيع اللبن العامي، والعتيلة، ومسألة الربع والرسن ومعطى العادة، وعلق في ضمن الكتاب على أبواب من جمع الجوامع رأى أن مضمونها ضروري للمجتهد والمخرج، واهتم بالتفسير الإشاري على طريقة الصوفية[64].
ومن اللافت للانتباه هنا أن المؤلف لم يخصص بابا للطهارة وللتيمم على الخصوص مع حاجة البدو إلى هذه الأحكام، ولعله اكتفى عن ذلك برسالته المفردة التي ألف في أحكام التيمم والضرورات الكثيرة التي تبيحه للبدو.
ثم واصل المؤلف البحث عن هذه المسائل المتناثرة في الكتب، فوقف على بعضها بعد أن ألف كتاب البادية في ما يبدو، فأضافها تحت عنوان "لحق" كما في قوله: "لحق: وبقي كلمات من أول الأمير وهي .."[65]، "لحق: وعندي أنهم لو ضيق عليهم لاقتحموا النهي بلا شبهة، كما ذكر الشيخ ابن عبد السلام ..."[66] أو علقها على هوامشه كما في قوله: "إلا ما ذكروا في باب السياسة، انظره في تبصرة ابن فرحون. وقفنا عليه بعد وضعنا التأليف ومباحثة العلماء عنه فلم يجدوه، والحمد لله على وجدانه"[67]، أو ذكرها في بعض كتبه الأخرى، كما يقول: "ولبثنا على ذلك برهة من الدهر متحيرين فيها حتى فرغنا من كتاب البادية فأظفرنا الله بها في شرح ابن لب المالكي للحلل المرقومة لابن الخطيب المالكي"[68]
1 – 2 – 2 : حصر الفتاوي الشنقيطية المتعلقة بالمسائل الخاصة بالبدو:
وقد وضع لترتيبها مقياسا محددا هو: "الأنسب التصدير بكلام الأعهدين البلديين، وأقرب البلاد إلينا شنجيط ثم تيشيت ثم تنبكتو"[69]، و"من الأعهدين محمد بن المختار بن الأعمش الشنجيطي، وكان حقه أن يتقدم لأن عَلَم أهل المنكب البرزخي عند أهل الأمصار "الشناجطة"[70] فرجع إلى فتاوي محمد بن المختار بن الأعمش كثيرا في نسخها المختلفة[71] والشريف بن احماضة كثيرا أيضا[72]، ومحمد بن عبد الله بن أحمد الواداني[73]، والخرشي بن أحمد بن عبد الله الباركي اليعقوبي[74] وحبيب الله بن القاضي الايجيجبي[75]، والشيخ سيدي محمد الخليفة وأبيه الشيخ سيدي المختار الكنتي (نقل عنه باب رد ألاي كله)[76] ومحمذن بن الطلبة الموسوي اليعقوبي وألفغ الخطاط[77]، وعبيدة بن عبد الرحمن بن الحاج العلوي (نقل عنه باب استحقاق الزكاة كله)[78] وسيدي عبد الله بن الفاضل الباركي وابنيه سيدي أحمد وأحمد البرناوي[79] وحمى الله عن عبد الله بن محمود عن فقهاء شنجيط[80]، وعبد الودود بن الحاج والطالب جده[81] و"المتعين للفتوى من الزوايا كعلامة المنكب البرزخي أحمد بن العاقل"[82] وابنه محمذن[83] وسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم[84]، وربما لا يعين مفتيا بعينه وإنما يحتج بالعمل العام كـ"عمل شنجيط ووادان ونصهم في نوازلهم"[85] و"نص أهل شنجيط وأهل وادان في نوازلهم"[86] وأهل تيشيت[87] و"عادة تيشيت"[88] ويقول:
وقـيدت بـمكان فـيه مفتقر شـناجط وتـشيت والأوادين
وانظر إذا شئت يوما في نوازلهم يظهر لك الحق من ذا والبهاتين[89]
وقد يبهم اسم المفتي اعتمادا على شهرته كما يقول: "ومن ذلك قضية أورع أهل زماننا وقدوتنا مع تلامذته"[90]، وقد يرد على بعض هذه الفتاوي[91]، وقد يذكر بعض فتاويه التي ألف قبل كتابه البادية.[92]
1 – 2 – 3 : فتح حوار مع علماء عصره:
وذلك تمهيدا لبناء مشروعه العظيم؛ كما يقول: "باحثت بعض فضلاء الفقهاء .."[93] و"باحثت بعض أهل شنجيط في العلم"[94] و"وقفنا عليه بعد وضعنا التأليف ومباحثة العلماء عنه.."[95] وأرسل رسائل استفتاء مفتوحة إلى معاصريه كما في مسألة زكاة مال النزاع التي كانت سببا لحوار بينه وبين العلامة محمد بن محمد سالم المجلسي حول هذه المسألة[96]، بل هو يعتبر مؤلفاته وفتاويه كلها من باب الحوار مع معاصريه واستفتائهم: "فأوردت مسائل من ما تعم به البلوى، مستفتيا فيها ومرشدا، لا مفتيا إلا لمن يرى ما أرشدت إليه، إن لم يرشدني هو إلى خير منه"[97]
1 – 2 – 4 : الاستشكال:
فناقش الفقهاء الذين منعوا الاجتهاد والتخريج على أهل عصره مستشكلا أقوالهم، كما يقال عن طرد الضوال "ومن ما يعرض بالفقهاء أيضا تأليف ابن الحاج إبراهيم العلوي، نفعنا الله به. وها أنا أشرح ترجمته لأبين ما علمت من مقصده وأستشكل ما لم أعلم؛ فقد قال العلماء: "الاستشكال علم" لا لأنقد عليه وهيهات وشتان"[98] ويقول محددا منهجه في هذا المجال: "ليعلم الناقد أن قصاراي في النوازل النقل والاسشكال أو الإرشاد المعرض للتصفح من من فيه أهلية وإنصاف"[99] وهو استشكال بَنَّاء لأنه يثير اهتمام معاصريه ويدفعهم إلى البحث عن النصوص والأحكام، فإن لم يجدوا نصا وبقي الاستشكال قائما فإنه على الأقل يحول المسألة من دائرة الحرام الصريح إلى دائرة الشبهة، كما يقول: "والاستشكال علم كما نص عليه في التاج والإكليل، ومن ثمرته طلب نص يحله أو يجعل المسألة شبهة إن لم يوجد نص، وحكم الشبهة عند عج الكراهة"[100]
1 – 2 – 5 : فتح باب التخريج والاجتهاد والقضاء للجاهل (غير المجتهد):
فمن أسس منهجه إقناع معاصريه بالاجتهاد في ما لم يفت فيه الأقدمون: "ومقصودنا التيسير ونفي الحرج عن أهل هذا القرن بأن لا ييأسوا من الاجتهاد إذا تعين على أماثلهم، وليس مقصودي أن أجر إلى نفسي كما يظلمني به بعد الطلبة"[101] ومن أسسه أيضا معالجة التناقض الذي يعيشه معاصروه حين يمنعون التخريج "الذي ينكره الطلبة ولا يفتون دونه إلا نادرا"[102]، وحين يمنعون على أنفسهم وعلى معاصريهم القضاء بحجة أنه خاص بالمجتهدين أو المقلدين (أي: مجتهدي المذهب)، مع أنهم يمارسون القضاء، فحاول أن يرخص لهم في "نصبهم للقضاة الجهلة"[103] حسب رأيهم.
لكن ما هي الأدوات التي يستعملها في الاجتهاد والتخريج لاستخراج حكم المسألة؟ يجيبنا على هذا السؤال قائلا: "فنعرض هذه المسائل على ثلاثة أجناس من الأصول، الجنس الأول: القواعد الأصولية التي منها الأدلة الكثيرة، الجنس الثاني: القواعد الشرعية التي اختص بها علم القواعد، الجنس الثالث: التخريج على ما في المختصر وشروحه ومتون الفقه من الضرورات والعادات، ولا سيما إذا كان المقيس أولى بالحكم"[104] ولعل هذا هو السر في أنه ذكر كثيرا من الفروع التي لا يبدو أنها ترتبط بالبدو ليقيس عليها بعض الأحكام البدوية، وذلك هو السر أيضا في أنه خصص جانبا كبيرا من هذه المجموعة لعلم الأصول؛ فقد ضمن كتاب البادية شرحا لكتاب القياس من جمع الجوامع[105] وختمه بشرح كتاب الاستدلال من جمع الجوامع أيضا[106]، وخصص أكثر الجمان للتخريج كذلك؛ لأن علم الأصول من أهم أدواته و"لأن أهل هذا الزمان، وإن كانوا إلى الأصول أحوج، فلا يكادون ينتفعون إلا بالفروع"[107]، ولأن من معاصريه من يحرم الاجتهاد والتخريج على أهل عصره وهو مع ذلك يخرج لكن بدون معرفة بعلم الأصول: "وانظر أيضا أي الحرامين يقدم من تجاسر من علمائنا على التخريج بالتخمين من غير معرفة القياس (..) وهذا حرام لا شبهة فيه"[108].
لكنه مع ذلك لا يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه أمام كل من هب ودب، فـ "الاستدلال بالآية متوقف على حصول شروط الاجتهاد المطلق"[109]، وقد رد الشيخ في كتابه: "إدخالات البحر في الغدير" على الأراري ومن وافقه من الغلاة في الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد.
وإذا كان المؤلف قد اهتم أساسا بالنوازل البدوية، فإنه قد ذكر في كتبه بعض اجتهاداته وترجيحاته العامة التي لا تختص بأحكام أهل البادية، كما في هذه المسائل: "قلت – ولا قول لي -: عندي أن جامع عمرو بن العاص – كالباب[110] – يتلو الثلاثة الأُوَل في الفضل؛ لأن قبلته قبلة إجماع وهو ملحق بالحرمين في وجوب تقليد قبلتهما دون قبلة مسجد بيت المقدس، فإن قبلته قبلة اجتهاد، والله أعلم. وعندي أن المساجد كما تتفاوت بفضل جماعاتها في الفضل كذلك تتفاوت في الحرمة بتفاوت فضل جماعاتها أيضا. وعندي أن ما قال النفراوي: "إنها لا تتفاضل في ذاتها" لا يمكن؛ لأن منها ما أجمع على أنه مسجد كالمبني المسقف، ومنها ما فيه خلاف قوي كالمبني غير المسقف، ومنها ما فيه خلاف دون ذلك كمسجد الفضاء، وظاهر كلامهم أيضا أن مسجد البادية دون غيره في الفضل، لكنه يمكن أن يرد إلى تفاضل الجماعة السابق، والله أعلم بحكمه"[111]
ولما كان المؤلف قد اعتمد منهج الاجتهاد والتخريج فإنه يبقى حذرا في اعتماد النتائج التي توصل إليها، ويترك الباب مفتوحا للبحث عن أدلة أقوى من أدلته: "هذا مع أنه معرض للتصفح من ذوي الألباب؛ فإذا وجدوا نصا في المسألة ألغوا كلامي فيها إن لم يظهر لهم قياس صحيح"[112].
1 – 2 – 6 : اعتماد التيسير والتسهيل:
فقد أباح جميع المسائل التي بحث في كتاب البادية أو جعلها من باب الشبهة على الأقل، كما يقول: "وأما الجواب عن السؤال الثاني – وهو أني ذهبت إلى التحليل في جميعها ولم أذهب إلى التحريم، وفي ذلك فتح باب لا ينسد – فهو أن الداعي إلى هذا أمران، أحدهما: عدم وجود النصوص على الأحوال، والثاني: التسهيل على هذه الطائفة من الأمة التي ألجأتها الضرورة إلى التبدي"[113] ويقول: "ومقصودنا التيسير ونفي الحرج عن أهل هذا القرن بأن لا ييأسوا من الاجتهاد إذا تعين على أماثلهم"[114] ويقول: "فبعد عرض المسألة على الأصول السابقة يظهر لمن شاء الله أن يظهر له أنها لا غبار على حليتها، أو عليها غبارٌ شُبْهِيٌّ؛ لاستشكالها بتحليل ما هو أشد منها تحريما بما هو أخف من ضرورتها"[115] "ومقصودنا من هذا الموضوع البحث عن بعض ما يظهر منعه بما يدل على جوازه أو يصيره شبهة، فيكون أقرب إلى الجواز كما قال الرامي في الغزال: "إن لا أكن قتلته فقد أفسدت معشاه"[116]، "ومرادنا التسهيل"[117]، وهو يعتمد قول سفيان الثوري: "العالم من يوسع على الناس، وأما التضييق فيعلمه كل أحد"[118]، حتى أنه حاول أن يلتمس وجها شرعيا للظواهر الاجتماعية الموجودة في عصره كمسألة العلاقة بين طبقات المجتمع التي افترض ربطها بعصر الفتوحات الإسلامية في هذه البلاد[119].
ولما كان أهل البادية يعانون من هذه الضرورات الشديدة فإنه "لا يقدم على وجوب منع" ما تؤدي إليه ضروراتهم كما يقول في مسألة اللباس: "وما لم يمكن ككشف الأطراف لضرورة الرحيل، لا للتبرج، فلا أقدم على وجوب ستره"[120] فالإفتاء في النوازل ينبغي أن يراعي الأحوال والأزمنة المختلفة، كما يقول:
ولـلنوازل أحـوال وأزمـنة تنوعت مثل الاحوال الأزامين[121]
1 – 2 – 7 : موقف معاصريه من اجتهاداته، وصلاحيتها لواقعنا المعاصر:
اختلف معاصرو الشيخ في الأخذ باجتهاداته نظريا؛ فظلمه بعضهم بأنه يدعو إلى اعتباره مجتهدا، كما قال: "ومقصودنا التيسير ونفي الحرج عن أهل هذا القرن بأن لا ييأسوا من الاجتهاد إذا تعين على أماثلهم، وليس مقصودي أن أجر إلى نفسي كما يظلمني به بعد الطلبة"[122]، ولم يتعاون معه بعضهم في مشروعه هذا وجعله من باب التعاون على الإثم والعدوان: "وأرجو أن يكون هذا من التعاون على البر والتقوى، وإن جعلتموه من الإثم والعدوان، قال:
عذيري من خليلي من مراد أريـد حـياته ويـريد قتلي"[123]
لكن بعض العلماء قد استحسن اجتهادات الشيخ كما يقول: " .. واغترارنا بمن ينظر من العلماء في هذا الموضوع، ويظهر ارتضاءه، حُسْنَ خلق منه"[124]
هذا نظريا، أما واقعيا فإن جميع الشناقطة كانوا يأخذون بهذه العادات، قبل الشيخ وبعده، وذلك ما دفعه للبحث لها عن وجه شرعي.
فما أحوج علماء المسلمين اليوم – ونحن في أزمة شبيهة بأزمة عصر المؤلف، مثلا من ناحية فقد النصوص، ومن ناحية انقسام الفقهاء إلى حيزين ..إلخ – بأن يأخذوا بهذه النظرية العبقرية التي اهتدى إليها هذا الشيخ البدوي باجتهاده، علهم يستكشفون بها حلولا شرعية لمشاكل العالم المعاصر.
[1] - انظر كتاب البادية: 167.
[2] - م. ن: 245.
[3] - الرسائل: 527.
[4] - م. ن: 533.
[5] - الدلفين: 628.
[6] - م. ن: 617
[7] - الرسائل: 585.
[8] - كتاب البادية: 169.
[9] - م. ن: 168.
[10] - م. ن: 167.
[11] - م. ن: 168.
[12] - انظر: رد الضوال والهمل: 144.
[13] - كتاب البادية: 168.
[14] - رد الضوال والهمل: 127.
[15] - الجمان: 487.
[16] - كتاب البادية: 198.
[17] - م. ن: 173.
[18] - م. ن: 186
[19] - م. ن: 341.
[20] - م. ن: 339.
[21] - الدلفين: 635
[22] - كتاب البادية: 247.
[23] - الجمان: 490.
[24] - م. ن: 491.
[25] - م. ن: 492.
[26] - م. ن: 490.
[27] - م. ن: 325.
[28] - الرسائل: 534.
[29] - كتاب البادية: 378.
[30] - الجمان: 462.
[31] - الرسائل: 527.
[32] - م. ن: 535.
[33] - ينظر: كتاب البادية: 249.
[34] - الجمان: 492.
[35] - كتاب البادية: 246.
[36] - الجمان: 491.
[37] - كتاب البادية: 245.
[38] - م. ن: 168.
[39] - م. ن: 366 – 367.
[40] - م. ن: 387.
[41] - م. ن: 198 و 204.
[42] - م. ن: 352.
[43] - م. ن: 368 و 311.
[44] - م. ن: 329.
[45] - م. ن: 364.
[46] - م. ن: 249.
[47] - الرسائل: 571.
[48] - م. ن: 592.
[49] - الجمان: 461 - 462.
[50] - م.ن: 463.
[51] - م. ن: 467.
[52] - م. ن: 373.
[53] - الجمان: : 493 - 495.
[54] - م. ن: 494.
[55] - الرسائل: : 529.
[56] - الجمان: 439.
[57] - كتاب البادية: 368.
[58] - م. ن: 324.
[59] - م. ن: 299.
[60] - الجمان: 463.
[61] - كتاب البادية: 292.
[62] - م. ن: 257، ومثله في: 263.
[63] - م. ن: 289.
[64] - كتاب البادية: 410.
[65] - م. ن: 284.
[66] - م. ن: 325.
[67] - م. ن: 361هـ.
[68] - الرسائل: 585.
[69] - كتاب البادية: 316.
[70] - م. ن: 318.
[71] - م. ن: مثلا: 198 و 199 و 299 والجمان: مثلا: 465 و 466.
[72] - كتاب البادية: مثلا: 307 و 308 و 317.
[73] - م. ن: مثلا: 313.
[74] - م. ن: 337 والرسائل: 530.
[75] - كتاب البادية: 340.
[76] - م. ن: 348.
[77] - م. ن: 350، والرسائل: 540 و 545.
[78] - كتاب البادية: 352 ...
[79] - م. ن: 361 و 383.
[80] - م. ن: 383.
[81] - م. ن: 383.
[82] - الجمان: 504، والرسائل: 577.
[83] - الرسائل: 532.
[84] - م. ن: 524 و 532.
[85] - م. ن: 528، واحتج بعمل أهل شنجيط أيضا في: 535.
[86] - م. ن: 530.
[87] - م. ن: 530.
[88] - م. ن: 535.
[89] - الدلفين: 628.
[90] - كتاب البادية: 324.
[91] - انظر: م. ن: 343.
[92] - م. ن: 330.
[93] - م. ن: 198.
[94] - الرسائل: 535.
[95] - كتاب البادية: 361هـ.
[96] - تنظر هذه الرسائل في هذه المجموعة.
[97] - كتاب البادية: 247.
[98] - م. ن: 176...
[99] - م. ن: 396.
[100] - الجمان: 491.
[101] - كتاب البادية: 407 - 408.
[102] - م. ن: 463.
[103] - الجمان: 489.
[104] - م. ن: 490 ...
[105] - ينظر: كتاب البادية: 231.
[106] - ينظر: م. ن: 415.
[107] - م. ن: 438.
[108] - كتاب البادية: 229.
[109] - الرسائل: 572.
[110] - يعني أن كلمة "العاص" على وزن كلمة "الباب"؛ فهي ليست منقوصة، أي: ليست "العاصي" التي هي اسم فاعل من "عصى"، وهذا من باب الاستطراد الذي يتميز به أسلوب المؤلف.
[111] - كتاب البادية: 277....
[112] - الجمان: 491.
[113] - م. ن: 490.
[114] - كتاب البادية: 407 - 408.
[115] - م. ن: 491.
[116] - م. ن: 382.
[117] - م. ن: 304.
[118] - م. ن: 386.
[119] - انظر: الدلفين: 619، والجمان: 512....
[120] - كتاب البادية: 324.
[121] - الدلفين: 607.
[122] - كتاب البادية: 407 - 408.
[123] - م. ن: 230.
[124] - الجمان: 491.
د. أحمد كوري بن محمد محمود