عاش الشيخ محمد المامي (1202 – 1282هـ) في العصر الذهبي للثقافة الشنقيطية (القرن 13هـ)، وهو قرن ازدهرت فيه العلوم والفنون في البلاد، وعاشت فيه نخبة من "الأكابر من كل صنف"، حسب تعبير الشيخ سيديا بابه[1].
ولم يكن من السهل أن يتميز علم من الأعلام في هذا القرن، لكثرة العلماء المحققين وتعدد المناهج وتطور الثقافة، لكن العلامة الشيخ محمد المامي اشتهر في عصره بالتميز والطرافة في أعماله، وقد لاحظ ذلك بعض معاصريه فمن بعدهم، يقول العلامة محمد الخضر بن حبيب: "كان ظم [يعني: الناظم، الشيخ محمد المامي] - رضي الله تعالى عنه - كثير الإغرابات في كل علم، لكن لا يطلع على أكثرها إلا المنتهون (..) وكان محمذ فالا بن متالي نفعنا الله بالجميع يستجيدها بالغة ما بلغت"[2] ويقول: "مِن مُلَح ظم [يعني: الناظم، الشيخ محمد المامي] في النحو، وهي كثيرة فيه وفي كل فن"[3]. وقد وصفه أيضا بأنه: "أعجوبة دهره"[4].
ويقول العلامة زين العابدين بن الجمد اليدالي: "وأما الناظم فكان غاية في العلوم؛ لأنه مشارك بل كاد يفوق أهل عصره لانفراده بعلم الهيئة وتسيير الكواكب وأقطار الأرض وأطوالها، حتى قيل: إنه يعلم عد الحصى. وربما أخذ ذلك عن بعض أزجاله الحسانية"[5].
والشيخ محمد المامي يعتمد أسلوب الإغراب والطرافة نوعا من التربية؛ لأنه يدفع القارئ إلى التفكير والبحث، ويمرن أذهان الطلاب على معالجة المشكلات العلمية، لئلا تتبلد أفهامهم، وليظهر فضل العلماء، كما يقول في مقدمة الجمان: "الحمد لله الذي جعل للعلماء في كتبهم مقاصد خفية لا تخلو منها، وجعلها سنة متبعة يثاب عليها، كما في حاشية الخازن في الكلام على البسملة؛ إذ العلماء اقتدوا بكتاب الله تعالى في ابتداء كتبهم بالبسملة، فكذلك اقتدوا به في استعمال المتشابه في كلامهم، إذ الحكمة جامعة لِيَلا تتبلد الأفهام"[6] ويقول معلقا على كلمة للشيخ سيدي المختار الكتني: "وهذه الكلمة من المتشابه الذي يستعمله العلماء في كتبهم اقتداء بمتشابه كتاب الله ليتبين فضل العلماء"[7].
1 - الطرافة والإغراب في الأسلوب:
يقول الشيخ محمد المامي عن حاشيته التي وضع على كتاب القياس من جمع الجوامع: "وليستعن بحاشية وضعتها على قياسه تمرينا وتذريبا، لا يفيد المطالع أولا إلا استشكالا ثم يزيده آخرا إيضاحا"[8]، وهذا التعبير يصدق في الحقيقة على أسلوب الشيخ في كل مؤلفاته؛ فهي تظهر بادي الرأي للقارئ الذي لم يتمرس بأسلوبه، غامضة أشد الغموض، بيد أنه ما إن يتمرن عليها حتى يعتاد أسلوبها ويفهمه، بل يحبه ويعجب به.
من مظاهر الطرافة والإغراب في الأسلوب عند الشيخ محمد المامي، استخدامه للحقائق العلمية من جغرافية وفلكية وغيرها، كما يقول في مقدمته عن علم التربيع:
"اعلم أني لما سخر الله لي بمنه وكرمه نظم خليل، في أول السنة الرابعة من الهجرة في مقابل القطبين من الأرض"[9].
فهو هنا يشير إلى أن الليل يدوم ستة أشهر من السنة في بعض مناطق القطبين ويدوم النهار ستة أشهر كذلك، فالسنة بالحساب العادي هي يوم واحد بالنسبة لسكان هذه المناطق، والسنة القمرية 354 يوما، وعليه فإن كل 354 سنة بالحساب العادي هي سنة واحدة بالنسبة لهؤلاء؛ لأن السنة العادية هي بالنسبة إليهم يوم واحد. فالسنة الهجرية الأولى إذن - حسب هذا الحساب - بدأت سنة 1هـ وانتهت سنة 354هـ وبدأت الثانية سنة 355هـ وانتهت سنة 708هـ وبدأت الثالثة سنة 709هـ وانتهت سنة 1062هـ وبدأت الرابعة سنة 1063هـ وانتهت سنة 1416هـ!! ومن الواضح أن المؤلف عاش في أول هذه "السنة !!" الأخيرة لأنه عاش بين: 1202هـ و1282هـ.
ومن مظاهر الطرافة والإغراب في الأسلوب عنده، استخدامه للاستطراد والتلميحات الأدبية واللغوية والتاريخية؛ إذ يضفي الاستطراد والتلميحات غلالة من الغموض على أسلوب الشيخ محمد المامي، بالنسبة لمن يتعود أسلوبه؛ فلا بد لفهم أسلوبه واقتناص تلميحاته من مستوى "يتوقف على أشياء كثيرة"، كما يقول هو نفسه في شرح بيت له من قصيدته الدلفين: "معنى هذا البيت متوقف على أشياء كثيرة"[10]. ويقول العلامة محمد الخضر بن حبيب: "والاستطراد من عادة العرب، ويكثر من الناظم"[11]
من أمثلة استطراداته قوله: "وفي هذا البيت تعقيد، ولكن أباح التعقيد في نظم الفقه العلامة الزقاق، لا كإباحة مسلم بن عقبة المدينة فعوقب"[12]؛ يعني أن الزقاق أباح التعقيد (أي: جوزه)، وهذه إباحة محمودة، وليست كفعل مسلم بن عقبة يوم الحرة لما أباح المدينة (أي: استباح النهب والقتل فيها)، فتلك إباحة مذمومة.
ومثل قوله: "و إذا اشترط بعد عقد النكاح ما يقتضي فساد العقد، كرد آبق وكمهر ابن ملجم لو كان بعد العقد"[13]، في إشارة إلى القصة المشهورة عن ابن ملجم قاتل علي رضي الله عنه؛ فقد تزوج ابن ملجم قطام بنت ثعلبة على أن يمهرها ثلاثة آلاف وعبدا وقينة وقتل علي، فقيل فيه:
ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة
ثلاثة آلاف وعبد وقينة
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا
كمهر قطام من فصيح وأعجم
وقتل علي بالحسام المصمم
ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
ومثل قوله في شرح قول الزقاق في المنهج:
وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ أَوْ تَعَدَّى أَوْ غَرَّ بِالْفِعْلِ كَمَنْ قَدْ شَدَّا
"شدا: المتاع بحبل ضعيف، أو قيد الدابة "بحبل ضعيف غر منها فضلت"، وأما إن كان يناوله الحبل فيقيد هو فهو غرور بالقول أيضا"[14]. فقد تضمن هنا بيت كثير:
فليت قلوصي عند عزة قيدت
بحبل ضعيف غر منها فضلت
ومن أمثلة استطراداته أيضا قوله: "ولكن مذهب أبي حنيفة – النصراني أو التركي، رضي الله عنه – تحريم الطلاق في حال ارتضاء كل من الزوجين للآخر"[15]، فاستطرد أن أبا حنيفة تركي أو نصراني، وإنما سماه نصرانيا؛ لأن العرب يطلقون "النصارى" على من يلي الروم كأهل الشام حتى لو كانوا مسلمين؛ قال أبو جلدة :
فَـقُل لـلحَوَارِيَّاتِ يَـبْكِينَ غَيْرَنا
بـكَـيْنَ إِلـينا خـفيةً أَنْ تُبِيحَها
ولا تَـبْكِنا إِلاَّ الـكِلابُ النَّـوابِحُ
رِماحُ النَّصَارَى، والسُّيُوفُ الجوارِحُ
قال ابن منظور: "جعل أَهلَ الشام نصارى؛ لأَنها تلي الروم وهي بلادها"[16].
وللشيخ قصيدة اسمها "الأُرَيْمِدِيَّة"، وهي قصيدة في مسالك العلة وقوادحها، سماها بهذا الاسم لقوله في أولها:
أُرَيْمِدُ لاَ تَهْجُرْ مِنَ الْعِلْمِ عَاطِلاً
وَقِسْ كُلَّ مَشْغُوفِ الْفُؤَادِ بِذِكْرِهِ
وَإِنْ قِسْتَ فَابْحَثْ عَنْ مَسَالِكِ عِلَّةٍ
لَهُ عِلَّةٌ أَضْحَى لَهَا الْقَلْبُ مَسْلَكًا
بِعَيْنَيْكَ حَالٍ فِي الْعُيُونِ الصَّحَائِحِ
عَلَى كُلِّ مَشْغُوفٍ بِذِكْرِ الْمَلاَئِحِ
لِتَعْذُرَ قَيْسًا فِي سَخِيفِ الْقَرَائِحِ
كَمَا سَلَكَتْ مِنْ شَرْعِنَا فِي الْأَبَاطِحِ
ويقول في هذه القصيدة:
وَإِنْ شِئْتَ إِبْطَالِ الْمَسَالِكِ فَاطْلُبَنْ
كَقَوْلِ جَمِيلٍ - إِذْ تَبَيَّنَ عِلَّةً
"رَمَى اللهُ فِي عَيْنَيْ بُثَيْنَةَ بِالْقَذَى
تَخَلَّفَ حُكْمٌ عِنْدَ وِجْدَانِ عِلَّةٍ
وَلاَ يَتَأَتَّى الْكَسْرُ إِلاَّ بِكَسْرِهَا
(..)
لِأَنَّ الثَّنَايَا الْغُرَّ يُشْفَى بِهَا الْأَسَى
وَلاَ قَدْحَ فِي الْأَجْفَانِ حَتَّى يَرُدَّهُ
(..)
وَإِنْ قِيسَ قَيْسٌ يَتَّفِقْ ضَابِطٌ إِذَنْ
وَلاَ يُمْكِنُ التَّقْسِيمُ فِيمَا أَتَى بِهِ
قَوَادِحَ لِلْعِلاَّتِ مِثْلَ الْمَفَاتِحِ
لِحُكْمِ الَّذِي فِي صَدْرِهِ مِنْ تَبَارِحِ -:
وَفِي الْغُرِّ مِنْ أَنْيَابِهَا بِالْقَوِادِحِ"
فَلَيْسَ سِوَاهُ مِنْ هَوَاهَا بِنَائِحِ
أَوِ الْفَقْءِ لِلْعَيْنَيْنِ شَرِّ الْجَوَائِحِ
وَذَاكَ لِعَيْنِ الْقَلْبِ أَظْهَرُ لاَئِحِ
بَيَانٌ عَلَى رَغْمِ الْحَسُودِ الْمُكَافِحِ
فَيُنْفَى اخْتِلاَفُ الضَّابِطِ الْمُتَطَارِحِ
مِنَ الْعَيْنِ وَالْأَنْيَابِ فِي عَقْلِ شَارِحِ
فقد عالج في هذه القصيدة موضوعا علميا معقدا، هو مسالك العلة وقوادحها، لكنه حاول أن يقربه عن طريق مقارنته بالمعاني الغزلية في شعر جميل وقيس. يقول الشيخ المختار بن حامد معلقا على هذه الأبيات:
"فهو يخيل أن جميلا أصولي عرف مسلك علة القياس، وتطلب لها أحد القوادح"[17]
ومن مظاهر الطرافة والإغراب في الأسلوب عند الشيخ محمد المامي، صناعة المصطلحات؛ إذ يشعر الشيخ محمد المامي أحيانا أن المصطلحات القديمة لا تكفي للتعبير عن ما يريد إيصاله للقارئ؛ فيبتكر مصطلحات جديدة، كما في قوله: "انظر من أي القوادح رد تعليلات البدر الأول؟ (..) وما الفرق بين الليلة السادسة منه والبرج الثاني عشر من فلك العلة حتى كان الأول وفاقيا والثاني خلافيا؟"[18]، "كما في آخر الوتد، وهو، أي: الوتد الصحيح، الذي خلف البرج الثاني عشر"[19].
فكل هذه مصطلحات ابتكرها الشيخ، لكنه عاد وشرح لنا معانيها ورمزيتها، كما يقول: "والوتد والقطب اسم لأوائل البدر الآخر من العلة، والبدر كل أربع عشرة مسألة في موضع تحقيقا أو تقريبا، وإنما سميت بالبدر لأن نور البدر أربعة عشر جزءا، لكل ليلة جزء، زيدا في أول الشهر ونقصا في آخره، لا يتخلف ذلك، ولذا قد يسمى هنا بعض الفروع بـالليالي، والحامل على هذا كله تعظيم شأن القياس بـالأفلاك والبروج، وإشارة إلى صعوبته وعلو شأنه، ليهتم به وليحقق النظر فيه من هو أهله"[20].
ومن مظاهر الطرافة والإغراب في الأسلوب عند الشيخ محمد المامي، استخدامه للغات الأجنبية، وهي لم تكن شائعة في البلاد في عصره، مثل قوله في بعض أزجاله:
لخلف يتبعهم حد أمرد
بألف قلم كون قلم يا أحمد
يا بوني بوني فري كوت
واتبيع ظريوك خوف الفوت[21]
فبوني: جيد أو طيب، بالفرنسية: (bon)، وفري كوت: جيد جدا، بالإنكليزية: (very good).
وله قصيدة زجلية طويلة في التصوف وعلم الأصول، سماها: "منوارة"، مطلعها:
الدنيا والتل ف حفله
شات الظيف أشاتو بارك[22]
وقد سماها منوارة، باسم سفينة أوربية كانت تتردد على الشواطئ الموريتانية، وكان السكان يتاجرون معها، وأصل "منوارة"، الكلمة الفرنسية: (manoir)، أي: القصر الريفي.
وللشيخ قصيدة زجلية في الأبجدية السُّريانية، وأخرى في الأبجدية العبرانية[23].
ومن مظاهر الطرافة والإغراب في الأسلوب عند الشيخ محمد المامي، استخدامه للهجات العربية، التي لم تكن شائعة في البلاد في عصره، حتى كان الناس في عصره يستشكلون هذه الكلمات ويتساءلون عن معناها، مثل الصاطة والغندير واللبنة؛ إذ لم تكن هذه الكلمات مستعملة في الحسانية لعدم وجود مدلولاتها في البلاد.
يقول في بعض أزجاله، مستعملا كلمة الطاصة:
يا الباني في الجو اسما اخظر
فيه مخاليقك تتفكر
أحكم عنا جندك الاكبر
تجري فيه الشمس ألقمر
وانت عند كيف الطاصه
لا يعمل بينا حواصه[24]
ويقول في بعض أزجاله، مستعملا كلمة الغندير:
أورا ذا كامل يا القدير
اعطيت الشده والغندير
أنت اخبر باللي فيه الخير
باش إشوف الخاطر والعين[25]
ويقول في بعض أزجاله، مستعملا كلمة اللبنة:
يا مولانا كان طلبناك
وحمدناك قبل وشكرناك
افصلن في كثرت معطاك
على ذا الحاصل في اللبنه[26]
2 - التميز والطرافة في الأساليب التربوية:
من مظاهر التميز والطرافة عند الشيخ محمد المامي، أنه يستخدم في أعماله الخرائط والرسوم التوضيحية لشرح مضامين أعماله، ففي ديوانه الشعبي نجد له خريطة للمسجد الحرام، وقبلة كل بلد[27]، ورسما توضيحيا لعمل المصدر[28]، ورسما توضيحيا لحساب الحصى[29].
ومن مظاهر التميز والطرافة عند الشيخ محمد المامي، أنه يستخدم في أعماله وسائل الإيضاح لشرح مضامين أعماله؛ فيقارن الأفكار العلمية بالظواهر اليومية المعيشة كالأزياء والزراعة وورد الآبار، إيضاحا وتبيينا.
يقول مثلا مقارنا بعض أفكاره العلمية بالأزياء: "وهذا الكلام عمامة وقميص، يحسن إتباعهما بسراويل، وهي هذه:.."[30]
ويقول في الفرق بين همزة القطع وهمزة الوصل في فعل الأمر، وحركتها، مقارنا وموضحا لها بالأزياء:
يا السايل داير لعلامه
الرباعي لو لعمامه
والا يتخير حزامه
عن همزة الامر إلا جاتو
والثلاثي لو بلغاتو
من عين الآتي وكفاتو[31]
فقوله: "الرباعي لو لعمامه": يعني أن الهمزة في أول الأمر من الفعل الرباعي تكون مفتوحة مثل: "أَكْرِمْ"، فهي تشبه العمامة؛ لأن الهمزة المفتوحة تكون في أعلى الألف والعمامة تكون في أعلى الجسم.
وقوله: "والثلاثي لو بلغاتو": يعني أن الهمزة في أول الأمر من الفعل الثلاثي قد تكون مكسورة مثل "اجلس"، فهي تشبه النعل؛ لأن الهمزة المكسورة تكون في أسفل الألف والنعل تكون في أسفل الجسم.
وقوله: "ولا يتخير حزامه من عين الآتي واكفاتو": يعني أن الهمزة في أول الأمر من الفعل الثلاثي قد تكون مضمومة مثل "اكتب"، فهي تشبه الحزام؛ لأن الهمزة المضمومة تكون في وسط الألف والحزام يكون في وسط الجسم.
ويقول مقارنا وموضحا استنباط الفروع الفقهية من الأدلة الشرعية، بالزراعة:
ازرق عينك في صدر الواد
زرعت من شنبنات أعداد
وحسب ستين انظر عينك
تتفاصل نيران المدرك[32]
فالأدلة الشرعية محدودة، ولكن استنبط منها ما لا يكاد يحصى من الفروع، كما أن البذور قليلة، تنبت ما لا يكاد يحصى من الحبوب، قال تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة".
ويقول مقارنا وموضحا بين تعدد طرق الورود إلى الآبار، وتعدد المذاهب الفقهية والطرق الصوفية:
رسول الله حاسي بارد
والا لا تنكر يا الوارد
ألاشياخ مراير للذاهب
للحاسي كثرت لمذاهب[33]
فالطرق تتعدد إلى البئر الواحد، ولكنها كلها موصلة إليه، كذلك المذاهب الفقهية والطرق الصوفية تتعدد، ولكنها كلها متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا الباب مقارنات يعقدها بين الفصحى واللهجة الحسانية، لتسهيل قواعد الفصحى للعامة، مثل قوله:
الايدين أتمشين أتمشون
متخالف فيهم حرف النون
اف لوغت حسان ألعرب
اللي يجوبو واللي شطب[34]
يعني أن "الأيدي" في الفصحى بدون نون في آخرها، وفي الحسانية: "الايدين" بالنون في آخرها، وبالمقابل نقول في الفصحى أنت تمشين بالنون وأنتم تمشون بالنون، وفي الحسانية نقول: أنتي تمشي وانتومه تمشوا، بدون نون.
ويقارن بين المحسنات البديعية في الأدب الفصيح، وفي الأدب الحساني، لتوضيح المصطلحات الفصيحة للعامة، كما يقول:
لبديع ألا فن تشوعير
جناس القيفان التعقار[35]
وله قصيدة زجلية طويلة في جغرافيا الشرق سماها: "تقابل الجزيرات"، قارن فيها بين مواضع الجزيرة العربية ومواضع موريتانيا، بحيث أصبحت خريطة مصورة مقارنة توضح للعامة مواقع مواضع الجزيرة العربية، والأبعاد الفاصلة بينها، يقول في أولها:
لا رزنا مكة باقرباز
بدر زاد بجلوه يرتاز
والكعبة بواد البقرات
والدار ال بو قفة قفات[36]
ويقول في آخرها:
دونك تقريبا للأذهان
في تقابل الجزيرات[37]
وله قصيدة زجلية أخرى في المقارنة بين مصادر الاقتصاد عند القبائل العربية الجاهلية، ومصادر الاقتصاد عند الإمارات الموريتانية، يقول فيها:
عبد القيس عند القارب
أنظار اهل اعمر بو شارب[38]
3 - الاهتمام بدراسة الجغرافيا والفلك:
كتب الشيخ الكثير من الأزجال العامية لتقريب الحقائق العلمية إلى العامة، يقول في أحدها شارحا اختلاف التوقيت على سطح الأرض:
والشمس الا في شبر تزمام
ما زال الدحميس ف الاقدام
وفطر جيل ف مكة صيام
يفطر شنقيطي واوذن
فات عشا الاغلال تمكن
قبل العصر على تنيدن[39]
ويقول في أحدها شارحا كروية الأرض وقياس محيطها:
أنت لاحجيت مسوحل
أثلت عمان انت ترحل
وفرغ لبحر من قدامك
يردوك ال بل خيامك[40]
يعنى أن من حج من بلاد شنقيط قاصدا مكة، واتجه في حجه غربا، عكس المألوف، فإنه سيصل إلى مكة أيضا، لأن الأرض كروية، وأضاف أن قياس محيط الأرضي يساوي مسيرة ثلاث سنوات.
ويقول شارحا دوران الأرض:
يوم انهار الدنيا الاول
ومن بلد لابلد يتحول
أنتاجو في مرة تحصل
لا سدرت اشهاب يمشعل
قافي وجهك ولا سقبل
ما زال ظريك انكيف دخل
وخوتو في جميع أيامك
صبح مراصاك ظحى شامك
من تحت كتابك في ظلامك
يصلح في عينك تخمامك[41]
فهو يشرح أن اليوم الأول من أيام الدنيا، ما زال مستمرا إلى الآن، وإنما يتحول من مكان إلى مكان على سطح الأرض، لأن الشمس لا تغرب تماما، وإنما تدور بها الأرض، لذلك فإن وقت الفجر في الشواطئ الموريتانية هو وقت الضحى في بلاد الشام. ومثَّل دورة الأرض بالشمس، بمن أخذ بإحدى يديه كتابا (مثال للأرض) وأخذ بيده الأخرى شهابا (مثال للشمس)، ودار بالشهاب حول الكتاب، فسيضيء الشهاب الجانب الذي يقابله من الكتاب وتبقى الجانب الآخر مظلما، وستدور الإضاءة والظلام على جوانب الكتاب حسب دوران الشهاب (مثال لدوران الليل والنهار على سطح الأرض).
ويعالج في شرح فصيح لبعض أزجاله مسألة اختلاف مناظر القبة السماوية حسب اختلاف الزاوية التي ينظر إليها الراصد منها على سطح الأرض، ويوضح أن أهل كل قطر يرون جانبا من القبة السماوية غير الجانب الذي يراه غيرهم، كما يعالج مسألة الجاذبية،
4 - الاهتمام بالبحوث الرياضية:
اهتم الشيخ بتقدير عدد الحصا وعدد المطر عن طريق حساب التجزئة؛ فإذا عرفنا مثلا أن كل حبة من الحصا بحجم حبة من الدخن، تحتوي على ألف حصاة، وعرفنا عدد حبات الدخن التي يمكن أن تشغل مساحة ميل من الأرض وعرفنا عدد أميال الأرض وعمقها أصبح بإمكاننا أن نقدر عدد حصاها، كما يقول في بعض أزجاله:
ألف حصية حبت بشنه
والف من هبيله فطرتن
والف حبيبه قلب هبيله
والف الفطرة خنطر فيله[42]
وكذلك في مسألة عد المطر، فإذا رصدنا مساحة معينة (مثل شبر)، وعرفنا كم ينزل فيها من قطرة من المطر في فترة معينة (مثل دقيقة)، وعرفنا مساحة الأرض التي أمطرت ومدة المطر، أمكننا أن نحسب عدد قطراته، كما يقول:
حكم التجزئة ما يغلط
بعظن فات الحساب ظبط
في حساب الرش المتخلط
الالوف اللي شاطت صبو[43]
5 - الاهتمام باستكشاف المعادن واستخراجها:
عاش الشيخ محمد المامي في شمال البلاد، ولاحظ أن هذه المنطقة غنية بالمعادن، كما يقول في بعض أزجاله:
الارظ من المعادن حطرا
نتفو زغبتها ما تبرا
لو كانت رات إدوارن
من طول جرب فيها حارن[44]
بل وصف الآلات التي تستخرج بها المعادن، مشبها لها بالحيوانات، وبآلات النسيج التقليدية، كما يقول في بعض أزجاله:
جاك الفيل فمشيو يهزع
الماره تدفع للميشع
ومشى عر ينتق تاره
والميشع يدفع للماره[45]
6 - الصور الشعرية:
ازدهر الشعر في بلاد شنقيط في عصر الشيخ محمد المامي (القرن 13هـ)، واتخذ الشعراء الشناقطة في هذا العصر طرائق قددا في الأساليب الشعرية، من مدرسة احتذاء الجاهليين، إلى مدرسة الديباجة البحترية والأندلسية، إلى المدرسة الشعبية، لكن الشيخ اختط طريقا متميزا بين هذه الطرائق الشعرية؛ فأسس مذهبه الشعري على استثمار الصور الشعرية، وانتهج في ذلك منهج أبي تمام والمتنبي، بل ربما زاد عليهما في عمق المعاني وبعد الاستعارات، كما نرى في هذا المثال من شعره:
زَبَدُ البَحْرِ وَالْغُمَامُ جُفَاءُ
كُلُّ دُرٍّ فِي قَعْرِ بَحْرٍ عَمِيقٍ
وَلِكُلٍّ مِِنْهَا ضَمَائِرُ أَقْصَا
وَالْمَعَالِي أَصْدَافُهُنَّ الْمَعَانِي
سِيَمَا حِلْيَةُ الْمُصَلَّى عَلَيْهِ
صَلَوَاتٌ قَدْ زُوِّجَتْ بِسَلاَمَا
وَالْيَوَاقِيتُ وَالنُّجُومُ سَوَاءُ
عَرَضِيٍّ وَالْمَاءُ ثَمَّ الْهَوَاءُ
هَا مَصَابِيحُ وَالْقَرِيبُ جُفَاءُ
سَوْقُهَا فِي الْقَرِيبِ مِنْهَا جَفَاءُ
حَتْمًا إِنْ مِنْهُ تُذْكَرُ الْأَسْمَاءُ
تٍ عَلَيْهِ وَاخْتِيرَتِ الْأَكْفَاءُ
كَيْفَ يَسْطِيعُ مَدْحَكَ الْبُلَغَاءُ
قَاصِرٌ عَنْهُ مَا يُدَبِّرُ سَحْبَا
وَنِظَامُ الْمُعَلَّقَاتِ اللَّوَاتِي
حَسَّنَتْهُ ضَوَاحِكٌ مِنْ بَدِيعٍ
وَمِنَ اللهِ قَدْ أَتَاكَ ثَنَاءُ
نُ وَقُسٌّ وَهَذَّبَ الشُّعَرَاءُ
قَسَّمَتْهَا الْأَسْتَارُ وَالْجَيْدَاءُ
سُقِيَتْ مِنْ رُضَابِهَا الْجَوْزَاءُ
فَبَدَتْ حُمْرَةٌ عَلَى غُرَّةِ الْجَوْ
كُلُّ بُرْجٍ نُجُومُهُ غَائِرَاتٌ
حَمَلُ الْمَجْد تَغْرُب الشَّمْسُ فِي طَيْـ
شَمْسُ فَضْلٍ سُعُودُهَا مِنْ قُرَيْشٍ
زَاءِ الاُخْرَى وَغَارَتِ الْعَذْرَاءُ
غَيْرَ بُرْجٍ نُجُومُهُ الْخُلَفَاءُ
ـبَةَ مِنْهُ وَالْمَشْرِقُ الْبَطْحَاءُ
وَمِنْ اَوْسٍ وَخَزْرَجٍ ابْنَاءُ
7 – الإصلاح والدعوة إلى نصب الإمام:
كان الشيخ ساخطا كل السخط على الواقع السياسي الفوضوي الذي كانت تعيشه البلاد في عصره، وأطلق على البلاد أسماء تنم عن هذا السخط مثل "البلاد السائبة" و"المنكب البرزخي" لأنه برزخ لا يحكمه حاكم بين الدولتين الإسماعيلية في المغرب والدولة البوصيابية في السينيغال. يقول في شكوى هذا الواقع في قصيدته "الد لفين":
واها لقـطـربه الأحكام ضائعة يكـش في كـل ظـل مــنه تـنــين
لبعده من مسافات بها عرفت عدوى القضاء فما فيها مساكين[46]
ولهذا فقد وضع نصب عينيه الدعوة إلى نصب الإمام فبلاد "شنقيط" مع سبقها العلمي الذي لا يجارى تبقى مشلولة عاجزة عن القيام بدورها اللا ئق بها نتيجة الفوضى الضاربة الأطناب يقول في "السلطانية":
إن لم يكن شنجيط فيه زمزم فلـهم في العـلم أصــل أقـــــدم
لـكـن ذا وزر عظــيم الحمل على ألـوف العـقد ذات الحــل
إن لم يكن لهـم إمــام قـــائد تـضـيـق عـن قــضــائه المــوارد
وألف ثعـلب يقـودها أســد خـــير من ألف أسد إن لم تقد[47]
ويقول:
أثيروا الغرب قبل قيام عيسى لعــــل الله ينعـشــــــه سنـــينا
ويبدلكـم مكـان الـذل عـزا ودينا غـــير دين الأرذلينا[48]
ويرفض حجج المشككين في جدوى إقامة الدولة الإسلامية والمبالغين في مخاطرها:
وقلــــتم: لا جهاد بلاإمام نبايعه. فهلا تنصــــبونا؟!
وقلــــتم: لا إمام بلاجهاد يعززه. فهلا تضـــربونا؟!
إذا جاء الدليل وفيه دور كفى رداّ لقوم يعقلونا[49]
وقد أدرك المؤلف، بحسه الثاقب واطلاعه الواسع، الخطر الاستعماري الأوربي الذي يستعد للانقضاض على العالم الاسلامي فسارع إلى تحذير المسلمين منه يقول في رسالته إلى الحاج عمر الفوتي:
وأكثـر هذا الغـرب أهل ظواهـــــر لنا بـــــــــترات لاتعد جوامح
تحف مــسافات العدى جنـــــباتها وفيه النــــصارى غالبات كوالح
وهم يضعون الوسم في كل مؤمن كما صرعت للوسم نوق لواقح[50]
ولعل المؤلف كان يرى في "الحاج عمر الفوتي" ذلك الإمام العادل الذي طالما حلم به منقذا للبلاد والعباد، فمدحه بهذه القصيدة الرائعة.
ولم يكتف الشيخ محمد المامي بالدعوة إلى نصب الإمام بل نظر فقهيا لنصبه فنظم "الأحكام السلطانية" للمارودي بقصيدته: "زهر الرياض اللازوردية في الأحكام الماوردية"[51] حتى يضع أمام الإمام - إذا ما قدر له أن ينصب - نصوصا جاهزة للحكم ولو أنها مقتبسة من المذهب الشافعي، يقول في هذه القصيدة، مشيرا إلى تميزه بدراسة هذا الموضوع:
وأمــا أمـور بالإمــام تعلــــقت فغالبها في قطــــرنا لم يدرس
منحت حدوج "المالكية" نظــرة وإني ببرد "الشافعية" مكتس[52]
ويذكر المؤلف أن الرصاص والبارود أصبحا في عصره من الحرف المهمة التي لا يندفع العدو إلا بها، فأصبح تعلم هذه الحرفة واجبا[53]. وهنا نرى في المؤلف داعية نهضيا يلاحظ أن الأوربيين قد تقدموا على المسلمين كثيرا في مجال الصناعة، فأصبح يستنهض الهمم للحاق بهم في هذا المجال.
8 - الفتوى في المسائل البدوية:
انفرد الشيخ بين معاصريه الشناقطة بالبحث عن حلول للنوازل الخاصة بالبدو، كما يقول:
وأحكام باد غير أحكام حاضر
وأهل البوادي لم يولَّف عليهمُ
فيعذَرُ ما قصرتُ فيها لأنني
على أن ما سلمتمُ من نصوصه
فذكرُ الضعيف والشهير تَسامُحُ
مسائلُ قبل التلميات كواشح
كواضع فن عنه ذو اللب صافح
يُسَلَّمْ وما يُطرَحْ له أنا طارح[54]
ويقول عن كتاب البادية:
وبالتلميات اللُّمْيِ أولِ مرتع
لرواد بدو نافرتْ لسكون[55]
فكتاب البادية في تفرده وتميزه بالبحث في أحكام البدو، لا يضارعه إلا كتاب الشعراني في أحكام الجان! وما الشُّقَّة ببعيدة بين البدو والجان! كما يقول الشيخ في وصف كتابه هذا: "هو من مواضع الفتوى، وليس له نظير إلا كتاب "أحكام الجان" لعبد الوهاب الشعراني، وبين البادية والجان مناسبة لقول المتنبي:
نحن ركب مِ الجنِّ في زي ناس فوق طير لها شخوص الجمال"[56]
9 - فتح باب الاجتهاد:
دعا الشيخ إلى فتح باب الاجتهاد في النوازل الجديدة كما في قوله في المرجانية:
بَقِينَا وَعَصْرُ الإِجْتِهَادَاتِ قَدْ مَضَى
فَمَا الرَّأْيُ إِن لَّمْ يُفْتِ فِينَا مُقَلِّدُ؟! [57]
وقد اجتهد في هذه النوازل الجديدة؛ لأن الاجتهاد فرض على أهل كل عصر كما قال:
سَلاَمٌ عَلَى الْقَرْنِ الأُلَى خَذَلُونِي
وَنَاطَحْتُ عَنْهُم مَّاضِيَاتِ قُرُونِ
بِتَأْدِيَتِي فَرْضَ اجْتِهَادٍ عَلَيْهِمُ
وَفَتْحِي لِأَبْوَابٍ لَهُ وَحُصُونِ[58]
أما ما اجتهد فيه الأئمة السابقون - رضي الله عنهم - فكان يرى وجوب اتباعهم فيه وعدم الخروج على مذاهبهم بتأسيس مذهب جديد، كما قال في الزحلية:
لِيُقْنِعْنَا بِمَذْهَبِنَا اقْتِفَاءُ
فَفِي تَقْلِيدِ صَاحِبِهِ اكْتِفَاءُ
وَرُتْبَةُ الاِجْتِهَادِ لَهَا اتِّسَاعٌ
وَكَانَ لِمَالِكٍ فِيهَا اللِّوَاءُ
أَلَمْ تَرَ الاَصْفَرَ ارْتَكَبَ الدَّرَارِي
وَأَدْنَاهَا مَحَلَّتُهُ السَّمَاءُ
وَلَوْ شِئْنَا لِمَذْهَبٍ اخْتَرَعْنَا
وَلَكِن لاَّ نَشَاءُ وَلاَ نُشَاءُ[59]
10 - تسميات المؤلفات:
تميزت تسمية الكتب عند الشيخ محمد المامي، بظاهرتين هما: الطرافة والتعدد، وقد تجلت هاتان الظاهرتان في كتابه المشهور "كتاب البادية"، فمن أسمائه:
كتاب البادية: لأنه يعالج النوازل البدوية.
التلميات: والتلميات: جمع تلمية، وهي مصدر لـمَّى يلمي، أي: قال "لما"، وسماه المؤلف بهذا الاسم لأنه يتألف من أربعة أقسام كل قسم منها يبدأ بقوله: "ولما ...".
صوف الكلاب: كما يقول: "ومن أجل افتقار العامة لهذا الموضوع الهلهل النسج سميته بـ"صوف الكلاب"، قال:
بُـنَـيُّ كـثـيـرٍ يعلِّم علما؟! لقد أعوز الصوفُ من جز كلبه"[60]
وقد أخذ هذا الاسم من المثل: "احتاج إلى الصوف من جز كلبه"، وهو مثل يضرب في شدة الضرورة التي تلجئ الإنسان إلى استعمال ما لم يكن يحتاج إليه في الظروف العادية، يعني تواضعا أن الناس لو وجدوا نصوصا أو مجتهدين لما احتاجوا إلى هذا الكتاب، ولو وجد هو نصوصا أو مجتهدين لما اضطر إلى تأليفه.
ومن أسماء كتبه أيضا: الصادح والباغم، الشيخ الأجم والشيخ الأقرن، الجمان، الدلفين، الميزابية، الدولاب، إدخالات البحر في الغدير، الخراج الأول والخراج الثاني، التويشطيرة، الميس، بلاعة، الزبيرة، الفردي.
وكعادة المؤلف في التفنن في إطلاق الأسماء على كتبه، تفنن في تسمية بلاده؛ فسماها "المنكب البرزخي"[61] "ومَناكِب الأَرضِ: جبالُها؛ وقيل: طُرُقها؛ وقيل: جَوانِبُها؛ وفي التنزيل العزيز: فامْشُوا في مَناكِبها (..) والمَنْكِبُ من الأَرض: الموضعُ المرتفع"[62] و"البَرْزَخُ: ما بين كل شيئين، وفي الصحاح: الحاجز بين الشيئين"[63]، يعني أن هذه البلاد تقع بين الدولة الإسماعيلية في المغرب والبوصيابية في السينغال، ومن هنا فقد سماها أيضا: بلاد "السيبة" أو "الفترة" بين السلاطين أو بين الإمامين[64]، وقد استقى المؤلف هذه التسميات من الواقع السياسي للبلاد. ويسميها أيضا بالاسم التقليدي "شنجيط" ولا يستخدم هذه الكلمة إلا بالجيم[65]، ويسميها كذلك بـ "القطر الشنظوري"[66] نسبة إلى الأمير علي شنظورة أحد مؤسسي إمارة الترارزة. ويسميها كذلك "البلاد النجاشية"[67] لأنه وقف في بعض مصادر التاريخ على أن هذه البلاد كانت خاضعة لحكم قياصرة الروم عن طريق الحبشة[68].
11 - وفرة المصنفات:
لاحظ العلامة أحمد بن الأمين العلوي صاحب الوسيط عزوف الشناقطة عن الإكثار من التأليف، كما يقول: "أما المؤلفون فليسوا بالكثيرين بالنسبة إلى غيرهم"[69]
لكن الشيخ محمد المامي اشتهر بوفرة المصنفات حتى ذهب بعض المؤرخين له إلى أنه أكثر علماء الأمة الإسلامية تصنيفا!! يقول العلامة محمد الخضر بن حبيب الباركي (ت: 1345هـ): "ما علمت في الأمة أكثر من ظم [الناظم] تصانيفا؛ فهو أعجوبة دهره ولو سراج الدين بن الملقن أو السيوطي في ما أرى، ومن ذلك أشعاره عربية وبربرية، (..) لكن تصانيفه لم يحفظ عشر عشير معشارها - بتكرير إضافة - ولا غاية، فاستطلع! وذلك لثلاث لجهل البداة وجفائهم، كما في الحديث وغيره، ولعموم داء الحسد (..) وللزهد اليوم في العلم"[70] وقال العلامة محمد الخضر أيضا: "وحكى لي من يوثق به أنه قال له: "ألفت في القرآن مائة مولف ولم يسألني أحد عن مسألة منها قط" وقال لآخر: "ألفت في كل فن مائة" ولآخر: "لم أولف في الفقه لأنه فني، وإنما وضعت فيه أربعمائة فقط" اهـ وبينما هو يملي على ابن له وبنت أسماء تآليفه يكتبانها، كل بيده ورقة وقلم إذ قال: "وقدرت في نفسي تفسيرا للقرآن مائة سفر" ثم قال بعض تلاميذه: "كتب منه ستة على البسملة"[71].
12 - تيسير العلوم للعامة:
تميز الشيخ بوفرة أزجاله العامية التعليمية، التي يسر فيها أكثر العلوم والفنون للعامة، كما يقول فيه العلامة سيد أحمد بن اسمه الديماني: "والذي نظم العلوم كلها من فقه ونحو وتوحيد ومنطق وبيان وسيرة وأنساب وهيئة وغير ذلك، بنظم حسن سلس محكم من الشعر الحساني، لا تمل منه الأذن مع طوله بل لا تزيده الحكاية إلا حسنا عند سامعيه، وهو من العجائب العظام، وهو ديوان للعلوم كلها"[72].
13 - التركيز على النثر:
اشتهر الشناقطة بتميزهم في الشعر التعليمي وتفضيلهم إياه على المؤلفات النثرية، ولكن الشيخ محمد المامي بعد أن خاض هذه تجربة النظم، تميز عن معاصريه بانصرافه عن النظم إلى النثر، كما يقول: "... ثم ظهر لي أن العلوم لا يجدي فيها النظم شيئا لبطء سيره بحرفة الوزن والروي، فاهتممت بما ينفعني من أودية النثر كـ"التلميات" في أحكام البادية"[73].
[1] - إمارتا إدوعيش ومشظوف، ص: .
[2] - مفاد الطول والقصر في شرح نظم المختصر، ص: 44.
[3] - المصدر السابق، ص: 48.
[4] - تشريع الجوازي في نظيم نظم المغازي: للعلامة محمد الخضر بن حبيب، مخطوط بمكتبة أهل محمد الخضر، ص: 2.
[5] - مقدمة شرحه لوسيلة السعادة (نظم أهل بدر الكبير) للشيخ محمد المامي، ص: 1.
[6] - الجمان: 435...
[7] - الرسائل: 534.
[8] - كتاب البادية: 226.
[9] - مقدمة في علم التربيع: 1 – 2.
[10] - شرح الدلفين: ضمن: مجموعة من مؤلفات الشيخ محمد المامي: 621.
[11] - مفاد الطول والقصر في نظم المختصر: 78.
[12] - شرح نظم القواعد: شرح البيت: 137.
[13] - شرح نظم القواعد: شرح البيت: 480.
[14] - شرح نظم القواعد: شرح البيت: 1359.
[15] - الجمان: 499.
[16] - لسان العرب: مادة: (ح و ر).
[17] - حياة موريتانيا الحزء 2 (الحياة الثقافية) ص: 100.
[18] - كتاب البادية: 231...
[19] - م. ن: 235...
[20] - م. ن: 237...
[21] - الديوان الشعبي: 238.
[22] - الديوان الشعبي: 125.
[23] - الديوان الشعبي: 85 - 89.
[24] - الديوان الشعبي: 248 - 249.
[25] - الديوان الشعبي: 245.
[26] - الديوان الشعبي: 244.
[27] - الديوان الشعبي: 33.
[28] - الديوان الشعبي: 92.
[29] - الديوان الشعبي: 176.
[30] - الجمان: 514.
[31] - الديوان الشعبي: 101.
[32] - الديوان الشعبي: 133.
[33] - الديوان الشعبي: 135.
[34] - الديوان الشعبي: 80.
[35] - الديوان الشعبي: 117.
[36] - الديوان الشعبي: 113.
[37] - الديوان الشعبي: 115.
[38] - الديوان الشعبي: 107.
[39] - الديوان الشعبي: 166.
[40] - الديوان الشعبي: 166.
[41] - الديوان الشعبي: 167.
[42] - الديوان الشعبي: 169.
[43] - الديوان الشعبي: 220.
[44] - الديوان الشعبي: 169.
[45] - الديوان الشعبي: 169.
[46] - الديوان ص191
[47] - السلطانية ص5
[48] - الديوان ص205- 206
[49] - الديوان ص205
[50] - الديوان ص77
[51] - الديوان ص102- 119
[52] - الديوان ص102
[53] - انظر: م. ن: 201.
[54] - ديوان الشيخ محمد المامي (ط. زاوية الشيخ محمد المامي): 76.
[55] - ديوان الشيخ محمد المامي (ط. زاوية الشيخ محمد المامي): 211.
[56] - مفاد الطول والقصر على نظم المختصر: للعلامة محمد الخضر بن حبيب الباركي (مخطوط بمكتبة أهل محمد الخضر): ص: 27.
[57] - م. ن. ص: 79.
[58] - م. ن. ص: 211.
[59] - م. ن. ص: 33.
[60] - كتاب البادية: 305.
[61] - انظر: كتاب البادية: 318 والجمان: 504.
[62] - لسان العرب: مادة: ن ك ب.
[63] - م. ن: مادة: ب ر ز خ.
[64] - انظر: كتاب البادية: 200 و 249 و 311 و 327 و 332.
[65] - انظر: م. ن مثلا: 316 والرسائل: 528.
[66] - انظر: الجمان: 460.
[67] - انظر: الجمان: 440.
[68] - انظر: م. ن. وص. ن.
[69] - الوسيط، ص: 539.
[70] - مفاد الطول والقصر على نظم المختصر، ص: 62.
[71] - م. ن، ص: 66.
[72] - ذات ألواح ودسر: للعلامة سيد أحمد بن اسمه الديماني، مخطوط بمكتبة العلامة الشيخ محمد بن أحمد مسكة، حفظه الله، ص: 26 - 27.
[73] - مقدمة في علم التربيع: 1 – 2.
د. أحمد كوري بن يابه