إذا كانت البادية ربيبة الجهل والتخلف ونقيض الحضارة والمدنية فإن ظاهرة الزوايا والمحاضر الموريتانية التـي نشأت في أحضان مجتمع بدوي، وعرفت ازدهارا ضاهي مؤسسات إسلامية ثقافية عريقة مثل الجامع الأزهر والقرويين، لجديرة بالدراسة وبرهان ساطع على نسبية الأحكام.
كان الجامع في بلاد شنقيط قديما هو المؤسسة التعليمية العليا، غيـر أن التحولات الجوهرية التـي عرفها السياق الاقتصادي والسياسي والمؤسسي للثقافة الصحراوية في ملتقى القرنين 16 و17 الميلاديين، أدت إلى انتقال الثقافة من المدن إلى الأرياف واحتضان المحضرة و وسطها الزاوي لها وسهرها على نشرها بدل المسجد. وتعتبـر المحضرة مؤسسة تعليمية عليا مفتوحة لا إكراه فيها، تعتمد في تدريسها على التلقين، ويحتضنها وسط بدوي متنقل، وقد كانت في المنطلق امتدادا للثقافة العربية الإسلامية كما كرستها السنة المغربية الأندلسية من أشعرية سنوسية في العقائد، ومالكية خليلية في الفقه، تساندها علوم اللغة المدونة في المتون التعليمية خاصة مؤلفات ابن مالك في النحو، والخطيب القزويني في البلاغة.
وقد تميز أبناء المحضرة بالقدرة الفائقة على الحفظ والتذكر إذ لا يتخرج الطالب المحضري إلا بعد حفظه أمهات المتون المعروفة في الثقافة العربية والإسلامية، كالمعلقات السبع وصحيح الإمام البخاري ورسالة أبي زيد القيرواني وغيرها. ويدل الإنتاج الثقافي الضخم الذي خلفه علماؤها الأجلاء والذي شمل كافة مناحي الثقافة العربية والإسلامية وحتى العلوم البحتة من طب وفلك، وحساب، وجغرافيا على مدى الازدهار الذي وصلت إليه المحضرة الشنقيطية.
وقد اشتهر أبناء المحضرة الموريتانية في المشرق وفي بلاد المغرب العربي بسعة العلم والذكاء والاجتهاد مما جعلهم يتصدرون هنالك للفتوى والقضاء.
وبفضل هدا الصرح الحضاري المتميـز الذي هو الزوايا والمحاضر انتشر الإسلام وتمدد إلى تخوم الغابة الإفريقية، وأوروبا عبـر الأندلس، وبقدر ما نتشر الإسلام بقدر ما انتشرت اللغة العربية.
لقد اشتهرت في بلاد شنقيط العديد من المحاضر والزوايا ومن أهم هذه المحاضر محاضر قبيلة الشرفاء " أهل بارك الله " الـتي هي واحدة من أهم القبائل التي نشرت العلم والمعرفة، وحفرت الآبار ونمّت المنطقة. ومن أهم علمائها قطب زمانه العالم الجليل الشيخ محمد المامي الذي كان له الفصل في إنشاء هذه الزاوية
الشيخ محمد المامى وزاويته
هو أبو عبد الله الشيخ محمد إلمامي بن البخاري بن حبيب الله بن بارك الله فيه بن احمد أبي زيد يرتقي نسبه إلى عبد الله بن جعفر الطيار رضي الله عنهما، وقد سمي باسم المامي عبد القادر (ت 1257هـ) وهو أحد أئمة مملكة فوته الإسلامية في السينغال و المامي ان تحريف للإمام
ولد سنة 1202 للهجرة بموضع يسمى (آرش أعمر) بتيـرس الغربية وتوفي سنة 282 أهـ ودفن قرب جبل (أيق) بتيـرس الغربية و ضريحه مشهور هناك.
وقد أجمع المؤرخون على أن علم الشيخ كان لدنيا من عند الله تعالى بلا واسطة تعلم من أحد، فلم يدرس على أحد شيئا، بل أن علمه كان هبة وفتحا من الله وقد أشار الى ذلك في مقدمته لنظم مختصر خليل بقوله:
أعطاكموها فاتح الأبواب *** وإنما كنت من الاسباب
بجذبة من مالك الخطام *** ونية فاترة العظــــــــــــام
بشرية من بحر نور سلسل *** بين يدي في النوم خير مرسل
لكنها الرؤيا تسر من رأى *** ولا تغر مثل "سُرّ من رأى"
دعا الشيخ إلى فتح باب الاجتهاد في النوازل الجديدة كمالي قوله في "المرجانية":
بقينا وعصر الاجتهادات قد مضى *** فما الرأي إن لم يفت فينا مقلد
وقد اجتهد في هذه النوازل الجديدة لان الاجتهاد فرض على أهل كل عصر كما قال:
سلام على القرن الألى خذلوني *** وناطحت عنهم ماضيات قرون
بتأديتي فرض اجتهاد عليهم *** وفتحي لأبواب له وحصون
وقد ترك الكثير من المؤلفات في التوحيد، والفقه، والسيرة النبوية، والنحو، وقوانين الدولة ونظمها، والجغرافيا، وعلم الفضاء واكتشاف المعادن، وقد قام بإدخال تحسينات في المناهج التربوية المعمول بها ببلاد شنقيط آنذاك من حيث اختصار المطولات ونظمها حتى يتيسر حفظها مثل:
- المباني في نظم المقولات النحوية
- نظم مختصر خليل
- ترتيب نزول الناسخ و المنسوخ. وغيرها
و قد اشتهر الشيخ بوفرة المصنفات فله أكثر من 555 مؤلفا حتى قال فيه الشيخ محمد الخضر بن حبيب الله: " ما علمت في الأمة أكثر من "ظم" (الناظم) تصنيفا، فهو أعجوبة دهره، ولو سراج الدين بن الملقن أو السيوطي فيما أرى" (المفاد، مخطوط)
ومن أشهر كتبه:
كتاب البادية
- نظم مختصر خليل
- نظم القواعد الفقهية
- الإجماليات
- الدلفين
- الميزانية
- الدولاب في المذاهب الأربعة والاربعين
- إدخالات البحر في الغدير
- وسيلة السعادة شرح نظم أهل بدر
- سفينة النجاة في التوحيد.
- نظم أهل بدر الصغير
- الشيخ الأجم والشيخ الأقرن
- ديوان الشعر الفصيح
- ديوان الشعر الحساني.
ومن مشروعه الإصلاحي دعوته إلى النظام وقيام الدولة، كما حث الناس على العمل وطالبهم بالاتحاد وتنصيب حاكم يأمر بالعدل ودعا إلى العمران وحفر الآبار.
يعود تاريخ زاوية الشيخ محمد إلمامي إلى أكثر من قرنين من الزمان حينما أسسها الشيخ، وظل عطاؤها العلمي والمعرفي متواصلا منذ ذلك الحين في شكلها التقليدي. وأدراكا منا بضرورة مجاراة العصر والاخر بالوسائل الحديثة في التنظيم والتدريس وكان الاهتمام بما تركه هذا الشيخ هو أمانة في عنق كل من له غيرة على التراث العربي الإسلامي حتى لا يضيع هذا التراث.
وحتى لا تضيع الافكار والمشروعات المستقبلية التي حملها فكر هذا العلامة وعطاؤه. قامت جماعة من أبناء وتلامذة هذا الشيخ الجليل بتأسيس زاوية الشيخ محمد إلمامي بشكلها الحالي سنة 1983 بهدف بث العلم وأحياء تراث هذا العالم وتشجيع الباحثين على العناية به بجمع مخطوطاته وصيانتها وحفظها، ولتحقيقه وطبعه ونشره حتى تعم الجميع فائدته كما أراد مؤلفها الشيخ محمد المامي رحمه الله.
ويوجد مقر الزاوية في العاصمة نواكشوط، ولها فرع رئيسي في مدينة نواذيبو العاصمة الاقتصادية، وفروع أخرى في كل من المغرب والسنغال. كما تشمل محضرة يدرس فيها، بالإضافة إلى محاضر عديدة لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم العلوم الشرعية موزعة على مناطق بدوية عديدة داخل البلاد.
مكتبة المخطوطات
لقد تعرضت مخطوطات زاوية الشيخ محمد المامي- على الرغم من محافظة العلماء عليها واهتمامهم بها- لكثير من الآفات والأخطار من أهمها ظروف الحياة البدوية التي يطبعها شظف العيش وعدم الاستقرار والترحال الدائم مما يحول دون وجود الظروف المناسبة لصيانة المخطوطات، فضلا عما قام به الاستعمار من جهود للقضاء على كل ما يمت إلى التراث العربي الإسلامي بصلة لا سيما المخطوطات والكتب. وقد عملت الزاوية على تحسين ظروف حفظ المخطوطات، إلا أنها ظلت مع ذلك دون المستوى، نتيجة لقلة الإمكانيات المادية.
وتتوفر زاوية الشيخ محمد المامي على مكتبة ضخمة تضم الكثير من نفائس الكتب والمخطوطات التي ألفها الشيخ وغيره من العلماء الشناقطة، تغطى أهم مجالات التراث العربي الإسلامي.
وقد قامت الزاوية حتى الان بجهودها الذاتية بنشر مجموعة من مؤلفات الشيخ محمد المامي وتتضمن:
- نظم مختصر خليل في الفقه المالكي
- كتاب البادية ومجموعة من المؤلفات الأخرى منها: الجمان، والرسائل، والدلفين وشرحها، والميزابية في مَصَابِّ ظواهر الظنون الميزانية وشرحها
- صداق القواعد ( نظم القواعد الفقهية وشرحه)
- سفينة النجاة في التوحيد
- الأنظام المباركة في المدائح النبوية.
ويوجد ألان لدى الزاوية مجموعة أخرى جاهزة للطبع
الشيوخ والعلماء
تعاقبت على التدريس في هذه الزاوية منذ أن كانت بشكلها المحضري التقليدي، وبعد أن أخذت شكلها الحالي، أجيال عديدة من الشيوخ. وتخرجت منها أفواج كثيرة من العلماء. ومن أشهر هؤلاء الشيوخ والعلماء نورد هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر:
- الشيخ محمد المامي، مؤسس الزاوية الأول
- الشيخ عبد العزيز بن الشيخ محمد إلمامي
- الشيخ محنض أحمد بن حبيب الباركي
- الشيخ أحمد بن عبد الله بن عبد الدائم
- الشيخ محمد الخضر بن حبيب الباركي
- الشيخ عبد الله العتيق بن حمى الله اليعقوبي
- الشيخ محمد الأمين بن أب بن محمد الألفغي
- الشيخ محمد بن عبد العزيز بن الشيخ محمد المامي
ومن شيوخها المعاصرين:
- العلامة محمد بن أحمد مسكه
- الشيخ بابه بن محمادي
- العلامة القاضي الداه ولد حمين
- الدكتور أحمد كوري بن بابه بن محمادي
لقد أسس العلامة الشيخ محمد المامي زاويتة علمية صوفية، على التقوى من أول يوم، وظلت منارة في الصحراء تعلم الجاهل وترشد المستفتي وتؤمن الخائف وتطعم الجائع وتغني الفقير وتقضي وتصلح بين المتنازعين، وقام بها بعده أبناؤه إلى اليوم والحمد لله رب العالمين، وقد شهد العلماء والشعراء بدورها الكبير في المنطقة، قال فيها العلامة الشيخ محمد المصطفى بن تكرور الموسوي اليعقوبي:
وَزَاوِيَةٍ عَنْ زَوْرِهَا يَنْجَلِي الْفَقْرُ
وَشَيَّدَهَا الْعِلْمُ الْمُوَرَّثُ وَالنَّصْرُ
وَأَبْرَقَ فِيهَا مُزْنُ عِلْمٍ جَرَتْ بِهِ
مِنَ الشَّيْخِ أَنْهَارٌ يُوَاصِلُهَا بَحْرُ
وَتَسْمَعُ ضَوْضَاءَ الْحَجِيجِ أَمَامَهَا
وَيُطْرِبُكَ التَّرْتِيلُ وَالدَّرْسُ وَالذِّكْرُ
فَمَا حَاتِمُ الطَّائِيُّ فيِ حِلْمِ أَحْنَفٍ
عَلَى عَقْلِ إِياسٍ إِذَا مَدَّهُ عَمْرُو
بِأَطْوَلَ بَاعاً فيِ الْعَطَا مِن مُحَمَّدٍ
وَلاَ الْعَارِضُ الْهَتَّانُ فيِ صَوْبِهِ قَطْرُ
وقال فيها أيضا:
أَلاَ حَبَّذَا بَيْنَ الْمَسَاجِدِ زَاوِيَهْ
يَحِنُّ إِلَيْهَا كُلُّ زَاوٍ وَزَاوِيَهْ
زَوَى اللهُ عَنْهَا كُلَّ شَرٍّ وَآفَةٍ
وَأَبْقَى فِنَاهَا لِلْمَكَارِمِ حَاوِيَهْ
رَأَيْتُ بَنِي غَبْرَاءَ لاَ يُنْكِرُونَهَا
وَلاَ أَرْمَلاَتٌ أَصْبَحَتْ وَهْيَ طَاوِيَهْ
كَمَ انْعَمَ فِيهَا الْبَائِسُونَ وَأَخْضَلَتْ
مَعِيشَتُهُم مِّنْ بَعْدِ مَا هِيَ ذَاوِيَهْ
وَكَمْ ذَا سَلاَ فِيهَا الْغَرِيبُ عَنَ اهْلِهِ
إِلَى أَنْ سَلاَ لَيْلَى الْغَرِيبُ وَمَاوِيَهْ
وَكَمْ حُرِّرَتْ فِيهَا مَسَائِلُ صَعْبَةٌ
وَكَمْ أَنْشَدَ الأَشْعَارَ لِلشِّعْرِ رَاوِيَهْ
وَكَمْ ظَالِمٍ أَمْسَى وَدَوْحَةُ ظُلْمِهِ
تُهَدُّ عَلَى عُرُوشِهَا وَهْيَ خَاوِيَهْ
أَلاَ بَارَكَ اللهُ الْكَرِيمُ بِعُصْبَةٍ
بَنَتْهَا وَأَبْقَاهَا بِمَا هِيَ نَاوِيَهْ
وقال فيها الشاعر الشعبي المشهور محمد بن هدار الحراكي:
الزَّاوِيَه خَيْمَه تِلاَدْ
مَانِكْ وَيَّ الاِخْيَام اقْدَادْ
الاَوْلاَد اخَلُّوك ال الاَّوْلاَدْ
ابْسَخَاوَه وحْلاَوِيَّه
مَا كِيفِكْ خَيْمَه مِنْ الاَعْبَادْ
افْ لِعْرَبْ ذِيك احْرَاوِيَّه
أُلاَ نَلاَّ مَا هِي كِيفِكْ زَادْ
فيِ الزَّاوِيَه يَا الزَّاوِيَه
وَانَا مَا نَنْسَاك امْنُ اورَاكْ
ابْتِشْوَاشِي وِاتْخَاوِيَّه
أُلاَ تَنْسَاي اللِّي مَا يَنْسَاكْ
يَا الْعَرْبِيَّه يَا الزَّاوِيَه